الاحمق في مواجهة كرة الفساد المتدحرجة .. !

10.09.2018 | 18:09

مراجعة : عبد الكريم انيس

يحمل هذا الفيلم بعنوانه الأصلي Durak وباسمه الانكليزي The Fool أو الأحمق، صفة الأفلام الباردة، فطبيعة الأحداث فيه لا تبدو ساخنة بالرغم من كونها كذلك..

 يتخذ الفيلم من مدة زمنية قصيرة متناً لأحداثه التي تكشف لنا كمشاهدين نتائج مرحلة طويلة سابقة أوصلت الأمور للسوء الذي وصلت إليه، بالرغم من أن الظاهر الهادئ والبارد والاحتفالي لا يوحي بأن الوضع ذاهب باتجاه انهيار على مستويات عدة، أخلاقية وقيمية، وإنشائية هندسية كذلك.

 

استخدام اجتماعي

تبدأ أحداث الفيلم في ليلة باردة باستدعاء أحد مسؤولي الصيانة في أحد المساكن العامة التي أنشأتها الدولة في روسيا تطبيقاً لما آمن به من قام بثورة البلاشفة في البلاد، وهو حق الناس بالعيش في ما يسمى بـ"كومونالكاس"، وهي شقق سكنية ضيقة المساحة مشتركة بالمطبخ والحمام يعيش فيها عدد من الأشخاص الذين لا تربطهم علاقة قربى. ولفهم أكبر لطبيعة هذه المساكن يشرح رئيس مجلس وزراء روسيا الأسبق ديمتري ميدفيديف عنها فيقول إن المواطنين: "يحصلون على الشقة من الدولة بموجب اتفاق «استخدام اجتماعي» للمسكن، ومع أن ذلك الاتفاق لا يمنح المواطن الحق في الملكية الخاصة للمسكن، إلا أنه كان يسمح له بإقامة دائمة، ومنح آخرين تلك الإقامة، وتوريثه لأفراد الأسرة" (المصدر).

هذه الشقق الصغيرة تخضع لإشراف الدولة بشكل كامل، فهي تنظم إدارتها وصيانتها، ويقوم بتنفيذ هذا الإشراف المجلس المحلي لهذه المدينة الموكل بتنفيذ خطط تقرها الدولة وبالوقت ذاته يقدم كل الخدمات التي ينبغي توفيرها لضمان أمان المبني هيكلياً ويعطي كل الملاحظات والتوصيات التي بإمكانها أن تخدم قاطنيه.

تصدع اجتماعي

يتحدث الفيلم عن تصدع في بنية السكن الجماعي والذي يضم عدداً كبيراً من الناس، هذا التصدع ليس مجرد انهيار إنشائي، إنه دلالة ذات أبعاد اجتماعية تتعلق بالفساد المنظم والممنهج، ستشاهد في هذا الفيلم كيف تصنع المافيا الروسية وتتغلغل ضمن المجتمع حتى تنخره نخراً، المافيا التي سوف نشاهدها في الفيلم ليست مثل تلك التي اعتادت الأفلام الأميركية تقديمها وهي تعتمد على إراقة الدماء المبالغ فيها، إنها مافيا متشابكة من المصالح المتبادلة مع أشخاص آخرين، أشخاص طبيعيون ولكنهم متورطون بالفساد حتى آذانهم، لذلك تراهم متداخلين بكل تفصيل صغير وكبير لهذه الخلاصة المتمثلة في الانهيار الوشيك للمبنى والذي سيكون عماد الفيلم في بنية أحداثه.

 

خلال الفيلم سشاهد نماذج اجتماعية صغيرة للبشر، تحكي عن يومياتهم وانفعالاتهم وخلافاتهم وأنماط اجتماعاتهم، فالخصوصية في هذه المساكن الشعبية شبه معدومة، والخلافات الزوجية تكاد تحصل في الغرف المجاورة، والجيران يعرفون كل صغيرة وكبيرة من الشؤون الشخصية لجيرانهم، وبالإمكان الحصول على معلومات من الجيران عن بعضهم بعضاً بكل سهولة.

الشاب المحور

يعتمد الفيلم على شخصية ديما نيكتين Dima Nikitin وهو طالب يدرس الهندسة ويعمل في صيانة وتركيب الأنظمة المستخدمة لمياه الشرب والصرف الصحي وتصريف المياه في شبكة المواسير ليؤمن احتياجات عائلته الصغيرة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا الشاب صاحب المبادئ والأخلاق ابناً لشخص متمسك بالمثل والقيم ويعاني من كونه شخصاً نكرة في عالم تتكاثر فيه الشخصيات التي تسيطر على الحياة العامة كونهم من الفاسدين الوقحين الذين لا يخجلون أصلاً من إعلان فسادهم عياناً جهاراً، وسنشاهد تقريع زوجته الطبيبة له التي يئست من تبديل أوضاع زوجها بسبب التزاماته الأخلاقية، وهكذا نجد ديما نيكتين يعيش على تراث أبيه الذي سيلحق به نتيجة تصديه للفساد ودائرته المتشعبة تعباً وقهراً وانكساراً.

يدرك نيكتين أن البناء الذي يحوي حوالي 800 شخص على وشك السقوط بعد أن وصلته شكوى تتحدث عن صدع شاقولي في البناء وهو شيء خطير له تداعيات أمنية كبيرة على حيوات القاطنين فيه. وباعتباره صاحب ضمير حي يسارع بنفسه لكي يخطر السلطات البلدية التي يعمل لصالحها بالخطر الداهم، ولكنه يصطدم بدائرة محكمة الإغلاق من الفساد، فيبدو كمن يصيح في واد متسع ولا مجيب لصوته سوى رجع صداه.

فساد مدمر

يتحدث الفيلم عن كيفية تآكل مفاصل الدولة باعتمادها على أشخاص لم تراجع سوياتهم الأخلاقية، ولم تمحص وتتابع كلاً منهم بين الفترة والأخرى، لتبحث في مداخيلهم التي تتضخم لتظهر فجأة إنفاقاً ضخماً لموظفين بسطاء يعيشون على المنهج الشيوعي المتقشف. ويكتشف نيكتين أنه يعيش في غابة ينهش أفرادها بعضهم بعضاً بتراتبية، حتى لو كان ظاهرهم عكساً لسرائرهم، ويعرف من خلال بعض التفاصيل كيفية تغول الفساد ضمن مجلسه المحلي الذي يحتفل بإنجازات رئيسته في عيد ميلادها، وإذ باحتفالية عيد الميلاد تأخذ الطابع العكسي وتغدو مشهداً خلفياً استعراضياً يكشف فيه كل طرف عن أنيابه وأظافره المختبئة وراء ملابسه النظيفة وعن كمية الفساد المتورط فيه والأسباب التي دفعته لأخذ هذا الطريق.

تتفاقم الاشكالية وتبدو أنها فوق القدرة على الإصلاح أو حتى الرغبة بتقيل خسائرها، بحكم أن الفساد يعتمد نظرية كرة الثلج الصغيرة التي كان من الممكن اللعب واللهو بها، إلى أن تصبح كرة ذات قوة هادمة بوجه من يقف أمامها. وسيتم الكشف عن تسلسل مريع يصعب إصلاحه في مجتمع يخفي وراء وجوه تدعي الصلاح فيه، كيف يحاول كل شخص فيه أن ينجو بنفسه ولو كان على حساب حياة الآخرين، وهنا تكون ذروة الفيلم قد بلغت أوجها، وينجو نيكتين من تصفيته جسدياً ليتم إخفاء معالم تبليغه بواقعة الانهيار الوشيك للمجمع السكني، وتبدأ ذروة أخرى أثناء حواره الأخير مع زوجته، يعتبر فيه الضحايا جزءاً منه، لا مجرد غرباء لا يجب الالتفات اليهم، يكون نتاج هذه الخطوة ختاماً مأساوياً للفيلم حين يرفض نيكتين أن يهرب بنفسه لصالح حياة عائلته، ويقرر في اللحظة الأخيرة أن ينذر السكان من فجيعة ستصيبهم، ولكنه ينال المزيد من الإعراض والإهانة والنبذ في مجتمع يحمل في طياته كل أسباب الإفساد. هنا يقول المخرج وكاتب النص إن الفساد السياسي والحكومي هو ذروة لفساد المجتمع الذي يغرق في نومه وسباته وإعراضه عن مكافحة المفسدين أولاً بأول، ولا يتخذ موقفاً واضحاً من استمرارية فسادهم بل يتواطئ معهم ويعينهم على المزيد من الفساد والإفساد.

كتب الفيلم وأخرجه Yuriy Bykov، شارك في بطولته وتمثيله كل من Artyom Bystrov, Natalya Surkova, Yuriy Tsurilo وآخرين. تم إطلاق الفيلم في ال 18 من تشرين الثاني لعام 2015 في فرنسا.

أنتج الفيلم Rock Film Studio.

لمشاهدة المقطع الدعائي للفيلم (انقر هنا)


TAG: