تمرّ سوريا اليوم بمرحلةٍ هي الأصعب في تاريخها الحديث؛ ليست مجرد انتقالٍ سياسيٍّ من نظامٍ إلى آخر، بل تحوّل من ذهنية الخوف إلى ذهنية المشاركة، من دولةٍ كانت تُدار بالأوامر إلى وطنٍ يُفترض أن يُبنى بالإرادة الجماعية.
ومع ذلك، نرى في الشارع السوري اليوم ظاهرةً غريبة: الناس يحمّلون الحكومة الجديدة مسؤولية كلّ ما هو غير صحيح في البلاد، وكأنها تملك عصاً سحريةً تمحو آثار نصف قرنٍ من الاستبداد ثلاث عشرة سنةٍ من الحرب. يطالبون بخدماتٍ كاملة، وكهرباءٍ لا تنقطع، ورواتبٍ تكفي، وطرقاتٍ معبّدة، كما لو أنّ الدولة قد تعافت تماماً، وأنّ اللاذقية لم تزل تلملم بيوتها بعد العواصف، وأنّ حلب لم تُفقد نصفها الشرقي، وأنّ حمص لم تُهدم أحياؤها القديمة حجراً حجراً.
في درعا، مهد الثورة، ما زال الناس يتذمّرون من نقص الخدمات، لكن قلّ من يسأل: من سيبني المدارس التي تحوّلت إلى أنقاض؟ وفي دير الزور، التي دفعت أثماناً باهظة، يطالب الأهالي بالعمل والرواتب، لكنّهم يغضّون الطرف عن شبكات الفساد الصغيرة التي يشارك فيها البعض لتجاوز القانون. وفي دمشق، العاصمة المنهكة، يتعامل كثيرون مع الدولة وكأنها "الأب الغني" الذي عليه أن يُطعم الجميع، دون أن يتساءلوا: ماذا قدّم كلّ واحدٍ منهم؟ وماذا يمكن أن يفعل؟
هذه الظاهرة ليست جديدة على المجتمعات الخارجة من الاستبداد. إنها ما يسميه علماء السياسة "متلازمة ما بعد الدكتاتورية" — حين يبدّل الناس الحاكم لكنهم يحتفظون بذهنية الخضوع والاعتماد.
لقد عاش السوريون طويلاً في ظلّ سلطةٍ جعلت الطاعة أماناً، والنقد جريمة، والمبادرة خطراً. ومع سقوط تلك السلطة، وجدوا أنفسهم فجأةً في فضاء الحرية، لكن دون ثقافةٍ مدنيةٍ تؤطّرها. فبدلاً من المشاركة في البناء، بدأ كثيرون يمارسون الحرية كأنها حقٌّ في الشكوى فقط، لا واجبٌ في العمل.
صار بعض المواطنين يتحدّثون وكأنّ الرئيس الجديد قادرٌ على إصلاح كلّ شيءٍ بمفرده — من رغيف الخبز في القامشلي إلى طريق المطار في دمشق. ينتظرون منه أن يوفّر الكهرباء في الساحل، والمياه في الحسكة، والاستقرار في الشمال، وكأنّ الدولة الحديثة تُبنى على الرغبات لا على المؤسسات.
هذا ما يسميه علماء الاجتماع “الطفولة السياسية”: أن يطالب المواطن بكلّ شيءٍ من الدولة بينما يرفض أن يتحمّل أيّ مسؤولية. يريد الطرق المعبّدة لكنه لا يدفع الضرائب، يريد العدالة وهو أول من يتحايل على النظام، يريد الخدمات دون أن يحافظ على الممتلكات العامة.
لقد مرّت دولٌ كثيرة بهذه المرحلة من قبل — من جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، إلى تشيلي بعد بينوشيه، إلى أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية. كلّها تعلّمت أنّ الديمقراطية لا تُبنى في الساحات ولا بالهتاف، بل بالعمل البطيء والصبور: إصلاحٌ إداري، تربيةٌ سياسية، ومشاركةٌ حقيقية من المواطنين.
وفي سوريا، علينا أن نغيّر نظرتنا إلى الدولة. ليست الدولة عدواً، بل بيتاً مشتركاً، والوطن ليس رئيساً أو حزباً، بل شبكة من القيم التي نحميها معاً.
في اللاذقية مثلاً، لا معنى للحرية إذا كانت الشوارع مليئة بالنفايات والناس يتذمّرون دون أن يشاركوا في تنظيفها. في حلب، لا معنى للمواطنة إذا كان الناس ينتظرون المساعدات الدولية بدل أن يبدأوا بإعادة تأهيل أحيائهم بأيديهم. في ريف حمص ودرعا، لا يمكن بناء الثقة إذا استمرّ الناس في النظر إلى القانون كأداةٍ ضدّهم لا من أجلهم.
إنّ بناء الدولة لا يعني أن ننتظر ما ستفعله الحكومة، بل أن نسأل أنفسنا: ما الذي يمكن أن أفعله أنا؟
حين يتطوّع الشابّ في قريته لتنظيف مدرسة، وحين ترفض الأمّ الرشوة لتسجيل ابنها في الجامعة، وحين يحترم التاجر دور المواطن الفقير أمامه في الطابور، هناك تبدأ الدولة بالولادة الحقيقية.
سوريا لن تنهض بشعارات "نريد" و"أعطونا"، بل بروح "سنعمل" و"سنشارك". فالوطن لا يُبنى بالأمنيات، بل بالوعي والإرادة.
لقد تغيّر وجه الحكم، لكنّ وجه الوطن لن يتغيّر إلا إذا تغيّرنا نحن. الحرية ليست ما نحصل عليه، بل ما نصنعه معاً.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]