من فرعون إلى تل أبيب... موسم سقوط الطغاة... بقلم : ابن الفرات

الحديث عن زوال الاحتلال الإسرائيلي لم يعد ترفًا عاطفيًا أو شعارًا رومانسيًا يُرفع على جدران الذاكرة. بل هو أمر أقرب إلى الحقيقة السياسية والتاريخية، يفرضه منطق السنن، ويؤكده عقل من لم تُرهقه دعاية الأنظمة ولا خدرته فخامة "الواقعية السياسية". فالحقيقة، مهما بدت بعيدة في نشرة الأخبار، تبقى أقرب مما يتخيل من يتابع المشهد وهو يرتشف القهوة في استوديوهات التحليل.
كل احتلال يحمل شهادة وفاته معه. من يعيش على أرض مغتصبة، ويتنفس عبر رئات الدعم الخارجي، ويحيط نفسه بجدران إسمنتية وأساطير أمنية، لا يحتاج إلى عدو ليسقط، بل يكفيه أن يبقى واقفًا... فالوهن يأتي من الداخل. فرنسا بقيت في الجزائر 132 عامًا، ظنّت نفسها أبديّة، فخرجت ذات صباح لتجد نفسها مطرودة من قبل من كانوا قبل الأمس رعاة غنم. أمريكا التي أسقطت هيروشيما، لم تستطع إسقاط إرادة الفيتناميين، فانسحبت وهي تتلفّت كمن نسي شيئًا على موائد الحرب. وبريطانيا التي كانت لا تغيب عنها الشمس، أُطفئت شموسها بنَفَس مهاتما غاندي، رجل أعزل ببطنٍ فارغ، يهزم أعتى إمبراطورية بالمقاطعة والصبر.
حتى الاتحاد السوفييتي، ذلك الكائن النووي الثقيل، لم يكن بحاجة إلى هجوم غربي ليسقط، بل سقط بانهيار داخلي كئيب، أشبه بسكتة دماغية لنظام وصل إلى شيخوخة لا تنفع معها لا الأيدولوجيا ولا الدبابة. وأما جنوب أفريقيا، فإن نظام الفصل العنصري لم تسقطه الجيوش بل أسقطه ضمائر البشر، حتى أصبح سجينه السابق رئيسًا له، ولعل أولئك الذين رددوا "مستحيل" يومًا، ما زالوا في دهشة لم يستفيقوا منها بعد.
ثم جاءت الثورة السورية، تلك التي وُلدت في عنق زجاجة وسارت في حقل ألغام. قالوا إنها انتهت مئة مرة، ولكنها كانت – كالعنقاء – تنهض من الرماد، لا لتعود إلى ما كانت عليه، بل لتخطو خطوة أبعد، إلى أن جاء يوم صارت فيه دمشق حرة، وصار الإعلام الرسمي يبحث عن رئيس هارب، والوزراء يتبادلون النظرات في قصر لا رئيس فيه. لقد صمدت سوريا رغم روسيا، وصعدت رغم إيران، وتقدّمت رغم الخناجر. وفي النهاية، كما في البداية، لا شيء يصمد أمام صبر الشعوب.
الطغاة لا يسقطون حين يضعفون، بل حين يجنّ جنونهم. اسأل فرعون، الذي لم يسقط بعد أن تآكل سلطانه، بل سقط وهو في أوج مجده، يصرخ بكل ما بقي في صدره من نرجسية: "أنا ربكم الأعلى". غرق بزيّه الرسمي على رأس جيشه، دون أن يمنحه الإعلام الرسمي دقيقة بث مباشر. النمرود؟ لم يحتج إلى جيش يهزمه، بل بعوضة واحدة، اخترقت كبرياءه، وعلّمتنا أن الضعف أحيانًا أكثر فتكًا من القنبلة. عاد؟ صرخوا: "من أشد منا قوة؟"، فجاءهم الجواب على شكل ريح عاتية، كأنها صفعة من السماء. وثمود، الذين نحتوا الجبال واعتقدوا أن الصخر يحميهم من القدر، انتهوا بصيحة واحدة، فقط صيحة. أما الأحزاب، فجمعوا العرب كلهم ضد المدينة الصغيرة، فأرسل الله عليهم ريحًا أذلتهم... لعل أحدهم لم يُحكم إغلاق خيمته!
في المقابل، من يردد أسطوانة الواقعية السياسية المملة، ويُدهَش من قدرة غزة على الصمود، نقول له: الواقعية ليست أن تصف الواقع كما هو، بل أن تفهم كيف سيتغير. "هل تعتقد فعلًا أن إسرائيل ستزول؟" يسأل أحدهم، وعيناه تلمعان بذكاء التلفزيون، فنجيبه: "وهل كنتَ تعتقد أن مانديلا سيكون رئيسًا؟ أو أن فيتنام ستنتصر؟ أو أن دمشق ستتحرر؟ أو أن بعوضة ستقهر النمرود؟"
غزة اليوم تضع كل تلك الأسئلة في كفّها الصغيرة، وتواجه بها جيشًا يملك البحر والجو والأقمار الصناعية، لكنها لا تملك سوى الوعي بأن الكرامة لا تقصف، وبأن الاحتلال لا يُربّى، بل يُطرد. ما السر؟ لا أحد يعرف. المنطق يخجل، والسلاح يتصبب عرقًا، والاحتلال يرتبك لأن حساباته لا تتطابق مع الواقع. هذه البقعة الصغيرة تحرج كل من ظنّ أن التوازنات تُبنى على عدد الدبابات لا على معنى الحياة.
الحقيقة البسيطة التي لا يريد كثيرون سماعها هي أن التاريخ لا يعترف بمن لا يتعلم. من فرعون إلى تل أبيب، موسم سقوط الطغاة لم ينتهِ بعد، والتذاكر إلى الهزيمة تُطبع بصمت. من يراهن على ديمومة الظلم كمن يراهن على بقاء الشتاء في عزّ الربيع. كل الاحتلالات زالت، وكل الطغاة رحلوا، وكل من قال: "أنا ربكم الأعلى"... نسي أن البحر لا ينسى.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]

الشرع: نخوض مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل..والمقاتلون الأجانب بسوريا لن يشكلوا تهديداَ لأحد

التعليم العالي تمنع الترويج لمحتوى يتضمن تحريضاَ على الطائفية والعنصرية

في أول زيارة له.. الشرع يلتقي العاهل البحريني بالمنامة

وفاة ستة أشخاص باصطدام حافلة وشاحنة في البادية

الشيباني: البحرين شريك فاعل في جهود إنعاش الاقتصاد السوري

ماكرون: يجب حماية الطوائف بسوريا ومحاسبة مرتبكي المجازر.. ونعمل على رفع العقوبات تدريجياَ

محادثات تركية إسرائيلية في باكو حول سوريا.. وتل أبيب تعرض 3 مطالب
