مساهمات القراء

رغم الموت المنتشر في السويداء ... شعرت ببعض الأمان بقلم: فراس الفريح

مساهمات القراء

27.08.2025 | 12:30

أنا مستقر خارج سوريا منذ العام 2006، أول زيارة كانت لي بعد الثورة في العام 2017 بعد ان دفعت البدل لأني تيقنت أن السقوط قد لا يأتي قريبا، في رحلتي الأخيرة لسوريا مع العائلة وهي الأولى من بعد السقوط، وعندما قال لي موظف الجوازات، يا حرام دافع بدل وكنت مطلوب للمراجعة، قلت له بكل ثقة أنه كان خيارا جيدا لأني استطعت رؤية والدي الذي توفي منذ عامين وهو أمر حرم منه الكثيرون، وبحكم أن عائلتي مهجرين من ريف السويداء الجنوبي منذ العام 2013 لأسباب لا أريد الخوض فيها اليوم، نزحنا الى مدينة السويداء كما فعل الاف من جميع أنحاء سوريا، منزلنا يقع بالقرب من المشفى الوطني. منذ زواجي في العام 2018 ورغم زيارتي مع العائلة لسوريا في العام 2022 لم تزر زوجتي تلك المدينة، لماذا الانتظار في قيظ الصيف في دمشق، وقبل توجهنا لحلب لزيارة نصف العائلة الاخر، لنزر مدينة السويداء.

في هذه الزيارة القصيرة إلى محافظة السويداء برفقة والدتي وزوجتي وطفلين صغيرين، وجدت نفسي وسط أحد أكثر المشاهد رعبًا في حياتي. لم تكن زيارة عائلية عابرة، بل تجربة قاسية عشت فيها تفاصيل الموت، والحصار، والانهيار.

على مدار أيام متتالية، كانت قذائف الهاون تتساقط في مختلف أنحاء المدينة ناهيك عن الاشتباكات التي لا تتوقف، كان صوت الرصاص يخفت ولا يختفي أبداً، الجثث في الشوارع تحت شمس الصيف اللاهبة، دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب.

الهجمات التي شنّتها مجموعات من فصائل السلطة، بمشاركة ميليشيات من بعض عشائر البدو - التي تفاجأنا بامتلاكها كل تلك الأسلحة لتستمر بقصف الهاون لما يزيد عن يومين متتاليين على المدينة بأكملها - كانت وحشية إلى حد لا يمكن تصوره، مخلفة مئات الضحايا، ودمارًا نفسيًا وماديًا لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم. (لا ألوم البدو الذين صرحوا انهم عانو وهجروا من السويداء، فنحن وهم وجميع المدنيين كنا تحت نار العصابات المهاجمة، ولو لم تقولوا أعرف انكم خائفون كما نحن جميعا).

ومع التصعيد، شُلّت الحياة بالكامل. توقفت الكهرباء، انقطعت شبكات الإنترنت والهاتف، وتراجعت خدمات المياه إلى حد العدم. لم يعد هناك ماء للشرب والطعام بدأ ينفذ ويفسد، أما غسل الأطفال أو استخدام الحمام فقد أصبح تحديًا يوميًا قاسيًا. لم يكن لنا وسيلة اتصال مع العالم سوى تشغيل تلفاز عبر مولدة صغيرة استُخرج بنزينها من إحدى السيارات، أو محاولة إجراء مكالمة هاتفية تستلزم عشرات المحاولات لإتمام دقيقة واحدة نُطمئن بها أهلنا في الخارج، الاهل والأصدقاء وكل من كان له محاصر في السويداء تلقوا معنا الرصاص والهاون، خوفا وقلقا وترقبا لعجزهم عن فعل أي شيء، كانت محافظة كاملة تحت حصار مطبق.

الأسوأ من كل ذلك كان في موجة التجييش الطائفي والقبلي، التي أوجعتنا أكثر من الرصاص نفسه، هذا ما رأيناه على القنوات التي نقلت الصورة كما أرادت لها ان تكون. كنا نطرح السؤال ذاته بل يكرره الجميع، ولا نجد له جوابًا: لماذا يتم استهدافنا؟ ولماذا يسعون لقتلنا؟ تخيلوا أن لم يبقى من أمي إلا ان تطلب مني ان أحلق شاري الكثيف، كنا نعلم ان دخول هذه العصابات لبيتنا لو حدث لن يترافق مع الكلام أو التبرير بل غالبا مع القتل، لكن ربما تخيلت أمي أن تمثال السيدة العذراء في منزلنا وشاربي المحلوق قد يردعهم ويكتفوا بضربنا، لن أقول بكاء اطفالي والنساء قد يردعهم فلم يردهم في مرات عديدة هناك وأيضا هناك.

لكن وسط هذا الجحيم، كان هناك ما يشبه الضوء. وسط كل شيء، شعرت ببعض الأمان. جيراني الطيبون، وعلى رأسهم بيت عمي أبو جوزيف، ولن أنسي الجلسات مع أبو خزامي ومهند وأبو سليم وبقية الناس الذين لا تفارق صورهم مخيلتي، لم يتركوا لنا مجالًا للانهيار. فتحوا قلوبهم، أعطونا ما تبقى من أمل في صدورهم، قدموا الدعم المعنوي، وساعدونا على تجاوز أصعب اللحظات. كان تضامنهم الإنساني أقوى من الرصاص، وأعمق من الحصار.

اليوم، وبعد كل ما عشناه، لم يعد يكفي أن نقول "شكرًا". ما حدث في السويداء لا يمكن أن يُنسى، ولا يجوز أن يمرّ دون محاسبة. نحتاج إلى تغيير حقيقي في سوريا، يبدأ من تقاسم السلطة بشكل عادل، ويشمل جميع أبناء الوطن دون استثناء أو تمييز. وأما محاولة تخوين السويداء أو بعض رموزها أو محاولات مساوة الضحية بالجلاد أو طمس معالم الجريمة فلها مكان أخر للرد.

ما رأيناه لم يكن مجرد مأساة محلية، بل جرس إنذار لأمة بأكملها. وإن لم نتحرك جميعًا لبناء سوريا جديدة، فإن مثل هذه المآسي ستتكرر.

إلى كل من وقف معنا في تلك الأيام السوداء، شكرًا من القلب. ففي زمن الخوف والموت، كنتم الأمان. وفعلا كما كان عمي أبو جوزيف من خارج المحافظة قبل 50 عاما وهو اليوم متجذر فيها ورفض مغادرتها، صدقت ما تقول الاهزوجة المحلية: "لسويدا باهلا كلنا قرايب"، حقا السويداء بأهلها ونعم كان الجميع عائلة واحدة يربطها أكثر من الدم، ان لا اقول ان أهل المحافظة ملائكة، لكن تعرف معادن الناس في الشدائد وأهل السويداء معدن ثمين جدا.

السويداء حتى اليوم تعيش محنة حصار اقتصادي واجتماعي خانق.

كيف استطعنا ونحن من السويداء عبور حواجز البدو والامن العام على أطراف قريتنا، أنتم بكل تأكيد قد عرفتم.

 

في 28/7/2025

-----------------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]